كليوباترا لم تنتحر بل ماتت مقتولة
بعد ألفي عام على موتها كليوباترا لم تنتحر بل ماتت مقتولة
في السياق ذاته، تجمعت مؤخراً لدى “بات براون”، خبيرة علم الإجرام المولعة بقضايا القتل التاريخية الغامضة، سلسلة من المؤشرات والقرائن المنطقية التي حَدت بها إلى تصور سيناريو جديد لطريقة وفاة المرأة الأكثر إثارة للجدل في حضارات الشرق القديم. وكانت “بات” اشتهرت في بلدها الولايات المتحدة بأنها استطاعت تحديد ملامح “قاتل ولاية كنساس المحترف”، أمّا على المستوى الدولي، فقد نالها، طبقا لمجلة “سامنتيريس” الفرنسية، نصيب كبير من الشهرة إثر إمساكها بملف المصرية “كليوباترا” رغم مرور ألفي عام على طي صفحاته.
لمحة سريعة
روى المؤرخ الروماني بلوتارك أنّ الأفعى الصغيرة التي لدغت “كليوباترا” جرى نقلها في “سلة تين”، بينما أشار ديون كاسيوس أنها كانت قابعة في “جرّة ماء”. بيد أنّ المعلومة التي بقيت غير مؤكدة على الإطلاق هي إن الملكة المصرية توفيت فعلا بلدغة أفعى.
المؤرخون جميعا تناقلوا على مرّ القرون حكاية أنها ماتت منتحرة بهذه الطريقة. أمّا الآن، فقد جاءت المحققة “بات براون” لتقول إن ما يحكى عن الأسلوب الذي ماتت به كليوباترا هو محض أسطورة وأنّ الحقيقة بعيدة عن كل ذلك. من جانبه يؤيد المؤرخ إيديت فلاماريون في كتابه الموسوم “كليوباترا، حياة وموت فرعونة” عن منشورات “جاليمار”، هذه الشكوك قائلا إن “فرضية المحققة الأمريكية جديرة بالاهتمام”. استعانت وكالة التحري التي تعمل معها السيدة “بات” بمجموعة المحامين والمحققين، كما طبقت نظريات علم الإجرام على تلك القضية التي طوى عليها الزمن مستعينة أيضا بمؤرخين وخبراء من مختلف الاختصاصات، ثم نشرت نتائج تحرياتها في وثيقة أشرفت عليها مؤسستا “ديسكفري تشانل” و”أتلانتك برودكشن”. وقبل الخوض في التفاصيل، ربما يكون من المفيد تقديم نبذة تاريخية عن القضية
في القرن الأول قبل الميلاد، انكفأت مصر القديمة أمام الجموح التوسعي للامبرطورية الرومانية التي كانت في أوج سطوتها على حوض المتوسط. خلال تلك الفترة، كانت كليوباترا تحكم بلادها مصر قطعت على نفسها عهدا بالحفاظ على استقلالها، فما كان منها إلا أن اختارت الزواج برجل الساعة القوي “يوليوس قيصر” وأنجبت له ولدا أسمته “قيصرون”. لكن فاتح بلاد “الغال” لقي مصرعه بعد برهة من الزمن، واضطرت على أثرها كليوباترا الزواج بزعيم روماني آخر هو “مارك انطوني” الذي سحقه قائد طموح ثالث هو “أوكتافيوس”. بعد فترة وجيزة من تصفية زوجها الأخير، وبالتحديد عام 30 قبل الميلاد، وجدت كليوباترا ميتة بصحبة اثنتين من وصيفاتها داخل ضريح الإسكندرية الذي كانت محتجزة فيه، وهكذا انتهت آخر حقبة من تاريخ مصر المستقلة بعد أن ابتلعتها النزعة التوسعية لإمبراطورية الرومان.
ترتيب البيادق
في البداية قرأت “بات” جميع النصوص القديمة التي تناولت حياة كليوباترا وخلصت إلى نتيجة متفق عليها وهي أن المرأة تنحدر من سلالة يونانية عرفت بعنفها وسطوتها وامتزاجها بالدم المصري. اشتهرت كليوباترا إبان حكمها بألمعية لا يختلف عليها اثنان، فقد كانت تتحدث لغات عديدة وتستطيع خوض نقاشات مع علماء الإسكندرية.
انتقلت “بات” بعد ذلك لتلقي الضوء على الجانب النفسي من حياة الملكة المصرية “القاتلة” والتي كانت تمتلك نزعة قوية للاستمرار والصمود في وجه المخاطر المحدقة بها وببلادها، فقد رأت فيها امرأة لا تتراجع أو تستسلم للموت. وبما إن الانتحار لدى القدماء كان يرمز إلى الجبن، لذا انتهت “بات” إلى اعتبار فرضية انتحار كليوباترا مستبعدة.
الرواية الرسمية
بعد ذلك، طرحت المحققة الحاذقة على طاولة البحث والتمحيص تلك الرواية الرسمية التي تفيد بأنّ القتيلة “ماتت بسم أفعى لدغتها مع وصيفتيها”. لكن أول ما فعلته “بات” تمثل بدراسة ذلك الكائن الزاحف الذي دخل سجل التاريخ حين وجه المؤرخون إليه أصبع الاتهام في عملية اختطاف حياة ملكتنا الشابة. لذا فقد استعانت بالسيد ديفيد واريل، الخبير الأخصائي بالحيوانات السامة، حيث انتخب لها مرشحين من الأفاعي لا ثالث لهما : الأول أفعى اعتيادية واسعة الانتشار في موقع الحدث والثاني عبارة عن كوبرا مصرية.
بالنسبة للأفعى الاعتيادية، تستمر حياة المصاب بلدغة منها أياماً عدة، لذا استبعدت “بات” هذه الفرضية لأنّ كليوباترا كانت توفيت بسرعة حسب تأكيد المصادر التاريخية. بقيت الكوبرا التي يؤدي سمّها إلى تعطيل النظام العصبي لدى الملدوغ، مما يؤدي إلى إصابته بأعراض شديدة الخطورة تتدرج من الاختناق ثم الشلل الشامل وتنتهي بالموت بعد مضي ساعتين. قد تعض هذه الأفعى فريستها عشر مرّات دفعة واحدة تاركة علامات صغيرة في موضع اللدغ، الأمر الذي يتفق مع رواية بلوتارك. وهكذا استنتجت “بات” بأنه لو كانت كليوباترا قد تعرضت للدغة فستكون من أفعى الكوبرا.
نظرية الكوبرا “مستحيلة”
من البديهيات التي درجت محققتنا على اتباعها في عملها الاطلاع على موقع الجريمة عن كثب. لكن مشكلة بسيطة واجهتها تمثلت في اختفاء معالم المكان، فاكتفت بدراسة الآثار المندرسة لضريح الإسكندرية الذي كانت كليوباترا محتجزة فيه، مستعينة بعالم المصريات الشهير جان إيف أمبرور، ثم قامت بتركيب صورة افتراضية للموقع ثلاثية الابعاد واستنتجت بأنّ المسافة التي كانت تفصل بين القصر والضريح لا تتجاوز مئات عدة من الأمتار، أي أن عشر دقائق كانت تكفي للتنقل جيئة وذهابا بين الموقعين. لكن الروايات تقول إن كليوباترا كانت كتبت إلى سجّانها أوكتافيوس تبلغه بأنها أقدمت على الانتحار، مما دفع الطاغية الذي كان موجوداً حينها في القصر على إرسال أحد حراسه للتأكد من الأمر فوصل الأخير بعد إن فارقت الملكة الحياة!
وتعتبر “بات براون” هذه الرواية “مستحيلة” منطقيا، إذ تقول : “يفترض في هذه الحالة أن تكون كليوباترا ووصيفتاها لا يزلن على قيد الحياة، وأن يتوفر لديهن الوقت الكافي لإرسال الخطاب في اللحظة الأخيرة، فهل كان ذلك ممكنا؟” كلا بالطبع، لأنّ سم الأفعى يؤدي إلى الإصابة بحالة شلل كامل. لذا استبعدت “بات” نظرية انتحار الملكة الفرعونية بلدغة الكوبرا.
فرضية “الشوكران”
ونظرا لرغبتها الشديدة في الاقتراب أكثر ما يمكن من حقيقة ما حصل، عادت “بات” إلى نظرية الانتحار بالسم ولكن ليس من خلال لدغة أفعى، بل عن طريق وجهة مغايرة استندت أساسا إلى ما قاله المؤرخ اليوناني بلوتارك نفسه وهو انّ : “الواقع الذي لا يكاد يعرفه أحد أنّ الملكة كانت تحمل على الدوام سما داخل دبوس تخفيه في شعرها”. وإذ عُرفت كليوباترا ببراعة لا تضاهى في مهارة تسميم الخصوم، فقد قررت “بات” تسليط الضوء على هذه الفرضية.
توجهت المحققة الأمريكية إلى “ليو شيب”، الخبير في مركز معالجة التسمم في نيوزيلندا، الذي أكّد بأنّ نوعا واحدا من السُم يمكن أن يكون قد استخدم في هذه القضية وهو مستخلص عشبة “الشوكران” المستخدم على نطاق واسع في العصور القديمة. لكن طبقا لتقديرات “ليو”، من أجل قتل ثلاثة أشخاص بهذا السم (كليوباترا ووصيفتيها)، ينبغي استخدام كمية لا يقل وزنها عن 90 ميلي جرام، فكيف استطاعت الملكة اليائسة تعبئة هذه الكمية من السائل داخل الدبوس المغروس في شعرها ودون أن تثير انتباه وصيفتيها؟ وبالإضافة لذلك، لم يعثر في المكان على أي قدح أو آنية ربما تكون استخدمت لنقل جرعة السم القاتلة تلك. وهكذا كان لزاما استبعاد فرضية “الشوكران” أيضاً.
اغتيال سياسي
لِمَ لا؟ ولكن في هذه الحالة يتعين قبل كل شيء تحديد الطرف المستفيد من الجريمة. هنا قامت “بات براون” برسم صورة “أوكتافيوس”، ابن قيصر روما بالتبني وزعيم القصر الإمبراطوري الجديد. لقد عُرِف “أوكتافيوس” بتعطشه الكبير للسلطة وبقسوته ومكره حيث إنه أزال عن طريقه العديد من خصومه واشتهر أيضا بقتله شخصيا الشاب اليافع “قيصرون”، وريث العرش على مصر، فتمكن بسلاح الرعب أن يُنَصب نفسه أمبراطورا. لذا رأت المحققة “بات براون” فيه شخصية قادرة على تصفية كليوباترا ومستفيدة منها، ومع ذلك، كان عليها تحديد الدافع للقتل.
طبقا لتقديرات “بات”، فقد كان “أوكتافيوس” يواجه مأزقا محرجا بالنسبة له. فبعد أن انتصر على خصومه واعتلى هرم السلطة في روما، كان يستطيع وببساطة أن يستعرض الملكة المهزومة أمام جموع الجماهير كما فعل قبله يوليوس قيصر مع “أرسينويه”، شقيقة كليوباترا المتمردة. لكن الفرق يتمثل في أن الملكة كليوباترا كانت زوجة يوليوس قيصر وأنجبت له وريثا، فضلا عن ذلك لا تزال تحتفظ بحلفاء أقوياء لها في روما، وتتمتع في مصر بشعبية، جارفة إذ أنها كانت أول شخصية في سلالتها أتقنت التحدث بلغة فلاحي حوض النيل.
بناء على كل ذلك، توصلت “بات براون” إلى قناعة مفادها أنّ الامبراطور الجديد “أوكتافيوس” كانت لديه مصلحة كبيرة في تصفية كليوباترا ثم تمويهها بحكاية الانتحار.. لذا فهي “عملية قتل محضة” ليس الا