متحف "رودان" الكائن في الدائرة السابعة من باريس، المكون من طابقين وسبع عشرة غرفة بأحجام مختلفة، ويحتوي
على منحوتاته وبعض رسومه وتخطيطاته، يختزل مسيرة ذلك الفنان الفرنسي الذي تدل بصماته على فن القرن العشرين في فرنسا وفي أورويا.
القبلة، بوابة الجحيم، المفكر، الفجر والمنحوتات الأخرى ماذا تقول؟ وماذا يقول متحف رودان؟
يعـتـبـر النقـاد والدارسـون المتخصصون في الفن أن منحوتات فـرنسـوا أوغـست رينيـه رودان في صورها وأشكالها واحجامها، رموز فنية كلية تحقق فيها ما لم يتحقق لدى أي فنان عالمي. وحين نستدعي أسـمـاء منحـوتات رودان: القـبلة، بوابة الجـحـيم، المفكر، الفـجـر وبلزاك وسـواها من الاسمـاء نجـد انفسنا غير مضطرين إلى الإشارة إلى اسم رودان والتذكير به.
فهذه المنحوتات تجاوزت حدودها الفرنسيـة وبلغت من الشهرة ما بلغتـه "السـمـفـونيـه الرعوية" لبيتهوفن. الكوميديا الإنسانية" لبلزاك، السمفـونية الرائعـة" لبرليوز، وروا ية " اوليس " لجـيمس جويس والعجوز والبحـر لإرنست همنجواي.
ولد رودان فـي بـاريس فـي 12 نوفـمـبر/ تشرين الثـاني من سنة 1840 وتلقى في حـياته الدراسية العلوم الدينيـة، ثم بدا يرسم في سن التاسعة من عمره منصرفا في مـا بعـد إلى دراسة الفن. وفي سنة 1857 كان لقاؤه بالنحات الفرنسي ماندرون الذي نصحه بالانصراف إلى دراسة النحت فـي معهد الفنون الجمـيلة بباريس. غير ان المعهد رفض قـبول رودان في أروقـته ثلاث مرات متتالية معللا الرفض بان أسلوب رودان مـتاثر جدا بمدارس القرن الثامن عشرو الاساليب التي كانت سائدة في ذلك القرن.
إزاء فشل رودان في الدخـول إلى معهد الفنون الجميلة، انصرف إلى العـمل الفني في أحد محـتـرفـات الديكور في العاصمة الفرنسية، إلى أن تمكن من إنجاز أول عمل نحتي في سنة 1860 وكان تجسيدا لوالده. ثم لم يتـوقف عن النحت
إلى أن اصبح عضـوا في اتحـاد الفنانين للديكور الذي كـان يضم رسـامين كـبـارا مـثل "دولاكـروا" الرسـام الفرنسي الرومنطيقي الذي عرف في رسومه الطبيعية، والذي شكلت المرحلة المغـربيـة مـحطة في فنه، وتيوفـيل غوتييه، الكاتب الفرنسي البارناسي الذي عرف بنزعته "الفن من أجل الفن". وقد كـان لحـضور رودان إلى جـانب "دولاكـروا " و"غوتييه " وآخرين، تاثيره في حياة ذلك النحـات الذي بدا يستـعيد ثقته بنفسه وبنحته.
عـانى رودان من مـوقف النقـد والنقاد ومن السلطات الفرنسية الرسمية ومن الجـمهورالذي لم يجعترف باهمـية مـا ينجـزه من منحوتات حتى كان التحول الرسمي في سنة 1880 ومـا تلاها في سنة 1900.
وإذا كان رودان قد أحب أن يعيش ويعمل في منطقة "مودان" القريبة من باريس وفي مناخ فني وانساني متواضع، فـإنه أحب في وقت لاحق أن يقيم متحفه في "قصربورين" الكائن في قلب باريس والتي تحيط به حـديقة تصل مساحـتها إلى حوالى ثلاثين ألف متر مربع. وقد تحول هذا القصر في سنة 1919 إلى مـتـحف رودان، وبعـد سنتين من وفاته، ومعركة سياسية لم تفسح المجال لعيني ذلك النحات العالمي ان تريا متحفه الذى يفتح اليوم أبوابه امام الجمهوروالمعجـبين لرؤية منحـوتات تمثل بحـضورها الطاغي تفردا لم تعرفه باريس قبل رودان.
الرقم 77 هو الذي يقود إلى شارع، "فـارين" في الدائرة السـابعـة من باريس أي إلى "قصربورين، المعروف بمتحف رودان، وهو قصريعيش في عزلة ووحدة كادتا تكونان موحشتين في الحديقة الكبيرة لولا منحوتات رودان وزوار المتحف من الجنسيـات المختلفة ومن جميع انحاء العالم.
مئات الزوار يوميا ما عدا يوم الاثنين يتوافدون إلى متحف رودان في باريس. ويقابله متحف آخـر أصـغـر منه في منطقة "مـودان"، التي احب رودان أن يعيش فيها لولا نصيحـة صديقه الشاعر الالماني ريلكه، الذي دعـاه إلى العـمل والحياة في "قصر بورين"، وكان من بين الذين أقاموا في ذلك القصر الشـاعر والرسـام الفرنسي جـان كوكتو والرسام ماتيس. و قد أقام رودان فـي الـطـابـق الارضي من القصر، مواصلا عمله النحـتي في الوقت نفسه في منطقة "مودان". وفـي سـنـة 1905 وهـي الـسنـة السياسـيـة الحـاسمة والمحطة الفـاصلة بين الدولة والكنيـسـة تحـول ذلك القـصـر إلى ملكيـة للدولة
التي قـسمت الملكيـة إلى جزأين: أحدهما مدرسة والثاني مـتـحف من دون تحـديد هويتـه. وهبت في سنة 1916 رياح مـعـركة فنية وسياسية شارك فـيها رسامون ومهندسون وسياسيون فرنسيون في طليعتهم "مونيه" و"ميـربو"، و"بـوانـكـاريه " مـن الـفـنـانـين و"كليمنصو" و"كليـما نتيل" من السياسيين لتحـويل "قصر بورين" إلى مـتـحف لرودان الذي كـان لا يزال حـيا، واستـمرت المعركة ثلاث سنوات ليـصبح القـصرفي سنة 1919 "متحف رودان"، وكان النحات الفرنسي قـد توفي في 17 نوفـمبر من سنة 1917 إبان الحرب العالمية الاولى، وفي الشهر الذي كان قد ولد فيه.
أعمال رودان النحتية الكبيرة تواجه زائر المتحف منذ دخوله الى الحـديقـة وهي: المفكر، بوابة الجـحـيم، تمثـال بلزاك الكاتب الفـرنسي ومنحـوتة بورجـوازيي الكاليـه.. وحـوالى 500 منحـوتة موزعة بهندسـة جـماليـة داخل صالات المتحف الاربع عشرة.
اما الحديقة التي تحيط بمتحف رودان فـتأتي بعد حديقـتي قصر فرساي الذي انشى في عهد لويس الرابع عشـر واللوكمسبـورغ في الدائرة الخـامسة من باريس. وقد اعاد تصميم الحديقة وهندستها المهندس الفرنسي جاك ساغار الذي استعاد أجواء حدائق القرن الثامن عشـر في فـرنسـا. وفي هذا المناخ الذي يعـود إلى الوراء ثلاثة قـرون وضعت بعض منحوتات رودان. وكان اولها منحوتة "المفكر" ثم منحوتة "إيغـولان " فـ "بوابة الجـحـيم" فـ "بورجوازيو الكاليه" فتمثال بلزاك. وتستحيل المفاضلة بين منحوتة واخرى من منحوتات رودان القائمة في الحـديقـة. غـيـر ان "بوابة الجحـيم" المنحوتة التي بدا العمل فيها سنة 1880، ولم تعرض إلا في سنة 1900، و"البوا بة" الموجـودة في حديقة المتـحف هي من البـرونز، وهي مستوحاة من ملحمة الشاعر الإيطالي دانتي "الكوميديا الإلهية" التي يصف فيها الشاعرالإيطالي طبقات الجحيم والفردوس في رحلة وهمية كقام. بها برفقة فرجيليوس وحبيبته بياتريس. وكان قد سبقه إ
لى مـثل تلك الرحلة الشـاعـر العباسي ابوالعلاء المعري في كتابه "رسالة الغفران".
امـا رسـوم رودان التي يصل عددها إلى حوالى ثمانية لآاف، فـهي تعرض مرة واحدة كل ثلاثة اشهر في القاعة التاسعـة، ومن بينها رسومه وتخطيطاته الاولى في شبابه، وبعضها مستوحى من طبـيعـة بلجـيكا وايطاليـا، ومن اشعـار دانتي والشاعر الفرنسي بودليـر. ومـعظم مائيـات رودان تسـتوحي المرأة، والمرأة الاسطورية والراقـصة في شفـافية مطلقة، خـصـوصـا أن فن الرقص احـتل مساحة غير قصيرة من الزمن في اثناء شيخوخة رودان.
بالإضافة إلى ذلك يضم متحف رودان في اروقـتـه بعض ملكيته من المنحوتات القديمة والتحف وبعض لوحات الرسامين العالميين مثل فـان جوخ، مونيه، رينوا ر، كا ريير، لاغروس وبلانش، فـضـلا عن الصـور الفوتوغرافـية التي يصل عددها أيضا الى حوالى ثمانية آلاف صورة.
رودان النحات الواقعي الذي كرس حـياته لقراءة الجـسد الإنساني، ونحت الحركة والسكون في الى الجسد وتفاصيل الجسد والوجوه والايدي، مانحـا إياها واقعـية ما بعـدها واقعية، ومد ظله الفني على عصره في فـرنسـا وأوروبا بعـد مـغعاناة إنسانية وفنية، هو اليوم يطل من خلال منحـوتاته وتماثيله في المتـحف والحـديقـة الكائنين في الدائرة السابعة من باريس.
وباريس الفن وعاصمة المتاحف في العـالم هي باريس بعض رودان التي أنكرته لفـتـرة من الزمن ثم عادت وكبرت به في مساحة فنية محدودة